محمد جمعة
الملك الأردني عبد الله الأول بن الحسين أول
من فاوض الإسرائيليين
لم تكن أفكار الرئيس المصري أنور السادات، ومن بعده قادة منظمة التحرير الفلسطينية، أول عهد العرب بالتسوية مع إسرائيل بشأن القدس، إذ ثمة طرف عربي ثالث كان الأسبق بشأن الترتيبات الخاصة بالقدس هو المملكة الأردنية الهاشمية، والتي بدأت محادثات مع قادة الحركة الصهيونية حتى قبل قيام إسرائيل في مايو 1948.
ولئن حرص الأردن على ألا يوقع تسوية مع إسرائيل إلا بعد توقيع الفلسطينيين (جاء التوقيع على جدول الأعمال الأردني - الإسرائيلي في واشنطن بتاريخ 14/9/1993، أي بعد يوم واحد من توقيع اتفاقية أوسلو في 13/9/1993، ثم وقعت بعد ذلك معاهدة وادي عربية في 26/10/1994)، إلا أن المحادثات بشأن القدس بين الأردن وقادة الحركة الصهيونية بدأت قبل ذلك بكثير؛ ففي عامى 1947 و1948 طرح موضوع القدس في الاتصالات الخاصة بين العاهل الأردني الملك عبد الله الأول بن الحسين، ومديرة القسم السياسي في الوكالة اليهودية "جولدا مائير"، حيث حاول الملك حل النزاع الفلسطيني – اليهودي سلميا، وسعى لإقناع العرب بقول قرار التقسيم.
وعلى الرغم من أن الطرفين توصلا فيما بينهما إلى قدر من التفاهم على عدم الحرب، والتقسيم الهادئ لفلسطين، إلا أنهما لم يتوصلا إلى أي تفاهم بشأن القدس.
حرب 1948 وتقسيم المدينة
طالع أيضا:
القدس والتسوية.. ماض مر ومستقبل أمر (1-4)
وبمجرد بدء القتال عام 1948 طلب الفيلق الأردني -لاعتبارات سياسية- تجنب التدخل العسكري في شرق القدس، بخلاف مشارفها والأحياء العربية المحيطة بها، على افتراض أن قوات الهاجاناه والتنظيمات الصهيونية الأخرى ستتجنب السيطرة على المدينة. ولم يكن تقدير الأردن بعيدًا عن حقيقة ما حدث فيما يتعلق بشرق القدس والبلدة القديمة، لكن الوضع لم يكن على هذا النحو في غرب المدينة.
فقد قررت الوكالة اليهودية، ومن بعدها قيادة دولة إسرائيل، رسم مستقبل غرب القدس بقوة السلاح كعاصمة لإسرائيل، وأخذت قواتهم أثناء حرب 1948 زمام المبادرة عدة مرات، وهاجمت الجيش الأردني، كما أدارت الهاجاناه في الأشهر الأربعة الأولى من عام 1948 عدة معارك لاحتلال الطريق المؤدي للقدس من ناحية الغرب، ومن اتجاه تل أبيب والسهل الساحلي، ونفذت سلسلة من العمليات العسكرية لاختراق الحصار العربي حولها، وكان هدف خرق الحصار العربي على القدس، هو وضع غرب المدينة تحت السيادة الإسرائيلية، وليس مجرد وصول الإمدادات والغذاء إلى يهود المدينة فقط.
وعلى العكس من ذلك لم تبذل إسرائيل حهدا مماثلا لاحتلال البلدة القديمة، وإن كانت حاولت مرتين احتلال "الحي اليهودي" فيها، وأعطت هاتان المحاولتان المبرر للفيلق الأردني كي يدخل شرق المدينة ويسيطر عليها، بما في ذلك البلدة القديمة، وتم له ذلك في 28 مايو 1948. وكانت تلك الخطوة العسكرية الأردنية محاولة من الملك عبد الله لتوسيع إطار التفاهم الذي تبلور عشية الحرب بينه وبين الوكالة اليهودية، ثم قادة إسرائيل فيما بعد، ليشمل القدس ومن ثم تقسيمها.
وهكذا نشأ خلال فترة الهدنة الأولى في 11 يونيو 1948 في القدس خط حدود قسَّم المدينة إلى قسمين: الجزء الغربي تحت السيادة الإسرائيلية، بما فيها الأحياء العربية (بقة، والطالبية، وقطمون، وجزء من أبو طور)، والجزء الشرقي، بما فيها البلدة القديمة باستثناء جبل المكبر، وكانت تحت السيطرة الأردنية.
ومع نهاية الحرب كانت غاية إسرائيل القصوى هي أن تُقبل عضو في الأمم المتحدة وتعزز الوضع السياسي للدولة الوليدة، وهنا واجهت القيادة الإسرائيلية معضلة كبرى تتمثل في كيفية التوفيق بين اعتبارات القبول بعضوية الأمم المتحدة واعتبارات الحفاظ على المكاسب التي حققتها خلال العمليات العسكرية في حرب 1948؛ حيث إن قبولها عضوا في الأمم المتحدة ارتبط بموافقتها على قرار التقسيم عام 1947، ومن ثم القبول في الحاصل الأخير بتدويل مدينة القدس، في حين أن نتائج المعارك العسكرية منحتها السيطرة على غرب المدينة، وهي تسعى للحفاظ على ذلك الوضع كي تتمكن من الإعلان عن القدس عاصمة لها.
إسرائيل والأردن.. تعاون لمنع التدويل
ولم يكن أمام إسرائيل في ذاك الوقت سوى اللجوء إلى الأردن للتوصل معها إلى اتفاق سريع يسد الطريق أمام رغبة الأمم المتحدة في تدويل القدس. وفي هذا الإطار يذكر بعض الباحثين الإسرائيليين أن تل أبيب أجادت جيدا قراءة نوايا ملك الأردن، الذي كانت غايته الأولى هي أن يُبقِي تحت سلطته المناطق التي سيطر عليها في الحرب (الضفة الغربية وشرق القدس)؛ ولهذا عرضت إسرائيل تقسيم المدينة بينها وبين الأردن، إذ يُمكِن هذا التقسيم "بن جوريون" من أن يجعل القدس عاصمة لإسرائيل، وفي الوقت ذاته سيحظى ضم الأردن للضفة الغربية على الشرعية طالما أن ذلك الضم كان بهدف حماية الأماكن المقدسة في القدس، وحراستها والقيام على رعايتها.
وكانت تلك المصلحة المشتركة بين الأردن وإسرائيل في إفشال خطة التدويل هي أساس الاقتراح الذي تقدم به الطرفان عام 1949 بتقسيم المدينة بينهما، لتبدأ بعد ذلك المحادثات حول حدود هذا التقسيم بين موشيه ديان، القائد العسكري لإقليم القدس، ونظيره الأردني "عبد الله التل". وفي هذا الإطار اقترح ديان التوصل بسرعة إلى اتفاق بشأن القدس، على أن يكون هذا الاتفاق جزء من تسوية شاملة بين الطرفين، حيث تنقل بعض المصادر الإسرائيلية عن ديان قوله: "إن الرغبة في التوصل إلى تسوية سريعة تغلق الباب في وجه التدويل، قادت إلى تنازلات كبيرة من جانبنا". وكان "ديان" قد عرض على "التل" تنازلا إسرائيليا عن الأحياء العربية التي احتلتها في غرب المدينة عام 1948، مثل "قطمون" و"بقة"، وعن مواقعها العسكرية في "جبل صهيون"، و"أبو طور"، وعن الكيبوتس الإسرائيلي "رامات راحيل"، وعن الحيين اليهوديين "تلفيوت" و"مافور حاييم". وهكذا ينشأ تواصل إقليمي عربي من الشرق إلى الجنوب، وإلى جنوب غرب القدس، مع ربط شرق القدس بمنطقة بيت لحم.
وفى المقابل طالب "ديان" بإيجاد تواصل إقليمي ضيق نسبيا مع المقابر اليهودية في جبل الزيتون، من خلال السيطرة على "جفعات هاعوفل"، وتسلم الحي اليهودي في البلدة القديمة، ووفقًا لاقتراح ديان، يظل جبل المبكر تحت السيادة الإسرائيلية، وكذلك الطريق المؤدية إليه. وعلى عكس الأحياء والمواقع اليهودية في البلدة القديمة، التي كان يوجد لها تواصل إقليمي، كان جبل المبكر "جزيرة يهودية" معزولة، سوحتى يتم ربط الجبل بغرب المدنية اقترحت إسرائيل شق طريق يمر حول الأحياء العربية.
وقد بحث ديان هذا الاقتراح أيضا مع قناصل كل من الولايات المتحدة، وفرنسا وإنجلترا في تل أبيب وعمًان، وكان موقف واشنطن في يناير 1949 هو أن تقسيم المدينة بالاتفاق أفضل من التدويل المفروض.
ورغم أن اقتراح ديان على النحو السالف يمنح الأردن بالسياسة أكثر بكثير مما حققه جنودها بالسلاح، إلا أن الأردن فضلت رفع سقف مطالبها، مستغلة الحماس الإسرائيلي للتوصل معها إلى اتفاق حول تقسيم القدس؛ فطالبت بالسيادة الكاملة على الحي اليهودي في البلدة القديمة، إضافة إلى الأحياء العربية في القدس الغربي. ولم تكتف بقبول المواقع العسكرية في أبو طور، و"جبل صهيون"، وإنما طالب "عبد الله التل" بأن تنقل إلى سلطة المملكة هاتين المنطقتين بالكامل. كذلك حاول الأردن استغلال حاجة إسرائيل إلى الاتفاق للحصول على تنازلات إسرائيلية في مسائل أخرى معلقة بينهما كمشكلة اللاجئين وصحراء النقب.
الأهم من ذلك أن الأردن كانت لديها مخاوف من أن يتحول جبل المبكر إلى قاعدة انطلاق لهجوم إسرائيلي على شرق القدس، وآنذاك يواجه الأردنيون كماشة إسرائيلية تسحق شرق المدينة من الغرب، ومن الشمال الشرقي، ولهذا لم تكن الأردن على قناعة بأن قبول إسرائيل بالتقسيم، ووجود سيادة أردنية على البلدة القديمة التي تحوي أماكن مقدسة لليهود، أمر يمكن أن يستمر طويلاً، واعتبرت الأردن المقترحات الإسرائيلية بإقرار سيادتها على الطريق المؤدي إلى جبل المبكر مؤشرًا على ذلك.
ومع رفع سقف المطالب الأردنية من وجهة نظر إسرائيل، فضلا عن شكوك الأردن إزاء نوايا إسرائيل المستقبلية، فشلت المباحثات بينهما، لكن إقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في نوفمبر 1949 بالعودة مرة أخرى إلى بحث اقتراح التدويل كان عنصرًا محفزًا دفع كل من الطرفين إلى طاولة المفاوضات من جديد.
وسرعان ما كثفت الاتصالات السياسية بين الطرفين لتوقيع اتفاقية شاملة بينهما، وفي هذا الإطار اقترح بن جوريون الحصول على تواصل طبيعي من غرب المدينة إلى الحائط الغربي "حائط البراق"، عبر الحي اليهودي في البلدة القديمة، وممر آخر إلى جبل المبكر، وذلك مقابل منح الأردن منطقة معينة في جنوب المدينة، لم يحدد إطاراتها بالضبط.
وفي 13 ديسمبر 1949 تم التوصل إلى وثيقة مشتركة بين إسرائيل والأردن، تنص على أن تقسم القدس بين الطرفين، بحيث يبقى غرب المدينة تحت السيادة الإسرائيلية، كما ضمّنت الوثيقة سيادة إسرائيلية على الحي اليهودي في البلدة القديمة وعلى الحائط الغربي المجاور له. وعلى عكس الموقف الأول لإسرائيل، لن تحصل على ممر إلى جبل المبكر لتهدئة مخاوف الأردن من أن تستغل إسرائيل الممر إلى جبل المبكر لمهاجمة القدس الأردنية، وتم الاكتفاء بممر متفق عليه إلى الجبل عبر المنطقة الأردنية، وفي المقابل تحصل الأردن على ممر من شرق المدينة إلى جنوبها. لكن ولأسباب تتعلق بقضايا أخرى (غير القدس) محل خلاف بين الطرفين كصحراء النقب، فقد فشلت هذه التسوية.
ونظرًا لعجز الطرفين عن إنجاز التسوية الشاملة بينهما، ولحاجتهما في الوقت نفسه إلى إنجاز تسوية بشأن القدس، فقد عمل الطرفان على تحييد القضايا الأخرى محل الخلاف، واستئناف المفاوضات حول القدس فقط، وذلك في الفترة من ديسمبر 1949 وحتى فبراير 1950.
وفي هذا الإطار اقترحت إسرائيل تقسيم القدس إلى جزء شمالي، يكون تحت السيادة الأردنية، وجزء جنوبي يشمل البلدة القديمة يعطى لإسرائيل. وبالطبع رفضت الأردن هذا الاقتراح رفضا قاطعا.
وبديلا عن ذلك عادت إسرائيل إلى المطالبة بالحصول على المنطقة الواقعة من الحائط الغربي عبر الحي اليهودي في البلدة القديمة، وحتى غرب المدينة، والحصول أيضًا على ممر من غرب المدينة وحتى قمة جبل المبكر. وبالمقابل طالبت الأردن بالحصول على الأحياء العربية في غرب المدينة، لكن إسرائيل رفضت ذلك، ووافقت فقط على إجراء مفاوضات حول تبادل مناطق في القدس، ومنح تعويضات مالية مقابل الأحياء العربية، التي ستبقى بحوزتها، وفي النهاية وصلت هذه المفاوضات أيضًا إلى طريق مسدود.
ويرى بعض المؤرخين الإسرائيليين أن فشل هذه الجولة من المفاوضات يعود إلى مطالب مغالى فيها من قبل إسرائيل، بالإضافة إلى عدم رغبتها في وجود خط حدودي ثابت ومتفق عليه في القدس، حتى يمكن تغييره مستقبلاً بالقوة. ويمكن القول إن إسرائيل فضلت انتظار اللحظة المناسبة التي تستطيع فيها احتلال كل المدينة بالقوة المسلحة.
وفي كل الأحوال لم تكن تلك الاتصالات المبكرة بإسرائيل من قبل الملك الأردني لترضي الكثير من الفلسطينيين، ولهذا اغتيل الأخير في 20 يوليو 1951 على يد أحد الفلسطينيين المناصرين لمفتي فلسطين الحاج أمين الحسيني؛ وهكذا أصبحت إمكانية التوصل إلى اتفاق شامل أو جزئي بين إسرائيل والأردن قضية تاريخية.
وفي ظل عدم وجود اتفاق، ظل تقسيم المدينة كما هو، ونفذت اتفاقية الهدنة التي وقعت بين الطرفين في نهاية الحرب. وفي أثناء ذلك استغلت إسرائيل تلك الأوضاع للإعلان عن القدس عاصمة لها، وفي عام 1949 دشنت إسرائيل الكنيست في غرب القدس، ومجلس الوزراء في عام 1950، كما فتحت المحكمة العليا في القدس، ونقلت أيضًا وزارة الخارجية عام 1953، وفي العام التالي عينت مدينة القدس مكانًا تقدم فيه أوراق اعتماد السفراء الأجانب.
ووسط هذه الظروف حدث التغير الدراماتيكي في موقف الأمم المتحدة في يناير 1952، إذ اعترفت الجمعية العامة بالأردن وإسرائيل، كدول مسيطرة ومحددة لمستقبل القدس، ووافقت بالفعل على "دفن" فكرة التدويل، ومهد ذلك الأجواء للجامعة العربية لتعلن هي الأخرى موافقتها على ضم الأردن للضفة الغربية، وذلك بعد أن التزم الأردن بأن ضم الضفة الغربية للمملكة لن يمس التسوية النهائية لمشكلة فلسطين. وهكذا تم الاعتراف بسيادة الأردن على الضفة الغربية منذ ذلك التاريخ وحتى حرب 1967.
تفاهمات ما بعد حرب 1967
احتلال القدس الشرقية عقد الصراع العربي الإسرائيلي
مع بداية العمليات العسكرية عام 1967 أتمت إسرائيل سيطرتها على الطريق المؤدي إلى جبل المبكر، وفي المرحلة التالية تم حصار البلدة القديمة في شرق القدس، وفي 27 يونيو 1967، وبعد الانتصار الساحق الذي حققته إسرائيل، قررت الأخيرة استدعاء رئيس بلدية شرق القدس المعين من قبل الأردن "روحي الخطيب"، وباقي أعضاء مجلس البلدية للمثول أمام الحاكم العسكري، الذي أبلغهم شفاهة أنه "باسم الجيش الإسرائيلي يحل مجلس بلدية القدس، ومن الآن وصاعدًا يعتبر عمال البلدية وإدارييها والفنيين عمالاً مؤقتين في بلدية القدس الإسرائيلية، إلى أن يتم التصديق على تعيينهم من البلدية، وبناء على طلبات تقدم منهم كتابة".
لكن إسرائيل بعد ذلك لم تخص الخطيب ورجاله بأي دور، ولم تفكر حتى في منحهم تعويضًا رمزيًا، رغم أن روحي الخطيب كان له دور كبير في إعادة الحياة في المدينة إلى وضعها الطبيعي فور الاحتلال الإسرائيلي.
وبعد أن استقرت الأمور لإسرائيل في "القدس الشرقية"، درست إمكانية إقامة إدارة ذاتية للفلسطينيين في بعض أجزاء الضفة الغربية، فيما عدا القدس، ولكن هذا الموضوع حفظ في سبتمبر 1968، ليتوارى معه الخيار الفلسطيني لأكثر من 20 سنة، وبدأ يبرز الخيار الأردني.
وفي 27 سبتمبر 1968 التقى وزير الخارجية الإسرائيلي "أبا إيبان" مع الملك حسين، وحدثه تفصيليا عن الإطار الجديد الذي يمكن أن تقبله إسرائيل للمفاوضات. ولم تكن إسرائيل لتقبل اقتسام السيادة على القدس مع الأردن بعد أن أتمت سيطرتها على المدينة، ولهذا طالبت بأن تظل المدينة موحدة تحت سيادتها، مع بحث إمكانية منح الأردن موطئ قدم في شرق القدس، شريطة أن يكون جهاز هذا الموطئ وصلاحياته دينية فقط، مع منحها أيضا ممرا يربط بين هذه المنطقة من القدس، وباقي أجزاء الضفة الغربية التي ستعاد للسيادة الأردنية.
وقد رفض الملك حسين هذا العرض لأنه لم يكن مستعدًا للموافقة على سيادة إسرائيلية على "الأماكن المقدسة" لليهود في شرق القدس، باستثناء الحرم القدسي، ولم يكن مستعدًا لأن تخضع القدس الموحدة عمليا للسيادة الإسرائيلية، وكان أقصى ما يمكن أن يوافق عليه نظرياً هو إقامة وضع خاص لشرق المدينة، وأن تبقى مفتوحة أمام حرية الحركة، والعبادة، والتجارة، والمرور بين شطريها.
وفي عام 1972 تقدم الملك حسين باقتراح للفلسطينيين يدعو فيه إلى إقامة اتحاد فيدرالي متكافئ الوضع بين ضفتي نهر الأردن، بعد أن تحرر الضفة الغربية من الاحتلال الإسرائيلي، وتحدد في المشروع الفيدرالي أن يكون شرق القدس عاصمة للإقليم الفلسطيني من الاتحاد.
وسلمت إسرائيل ردها على هذا الاقتراح في اللقاء السري الذي جمع بين كل من الملك حسين، وجولدا مائير رئيسة وزراء إسرائيل آنذاك، حيث كانت مائير مستعدة للاعتراف بملك الأردن حارسا للأماكن الإسلامية المقدسة في القدس، لكنها لم تكن مستعدة بأي حال من الأحوال للتخلي عن السيادة السياسية على شرق المدينة، بينما تمسك ملك الأردن بتطلعه لأخذ السيادة على شرق القدس، وإلا يجب سحبها من السيادة الإسرائيلية، وإقامة نظام خاص فيها.
في هذا السياق يذكر "مناحيم كلاين"، مؤلف كتاب "حمائم في سماء القدس"، أن شوق الملك حسين كان كبيرا للمدينة التي فقدها في حرب 1967، لدرجة أنه في 7 مارس 1974 رفض اقتراح وزير الدفاع موشيه ديان، باسترجاع كل الضفة الغربية فيما عدا شرق القدس.
وهكذا حالت الفجوة في المواقف بين إسرائيل والأردن دون التوصل إلى تسوية بينهما حول القدس أو غيرها. ومع ذلك، ونظرا لحرص إسرائيل على استرضاء ملك الأردن؛ فقد عملت على ترسيخ وجود الأردن في شرق القدس من خلال الأجهزة الدينية كالأوقاف الإسلامية والمحاكم الشرعية، حيث منح العاملون في تلك المؤسسات جوازات سفر أردنية.
وفي هذا الإطار عينًت الأردن مفتي القدس رئيسا للمجلس الإسلامي الأعلى، وسيطرت على جهاز الأوقاف وأمواله، بالإضافة إلى تمويل رواتب موظفيه الذين استمروا من الناحية الرسمية ينتمون للمملكة الهاشمية. ومن خلال أموال الأوقاف الضخمة مولت الأردن المدارس والكليات والمقابر والمساجد وخدمات الرفاهة وأجهزة الزكاة، ووفرت العمل لمؤيديها بحيث ضمنت وصاية وتأثير سياسي في الضفة الغربية عامة والقدس بصفة خاصة.
ومن خلال الميزانية السنوية التي كانت تبلغ 17 مليون دولار (خمسة ملايين دولار منها توجه لمناطق القدس)، أدارت وزارة الأوقاف الأردنية حوالي 950 مسجدا في أنحاء الضفة الغربية، منها 180 في القدس وضواحيها، ومولت أيضا رواتب 2500 عامل منهم حوالي ألف عامل في القدس وضواحيها.
ومن عام 1953 حتى 1994 أنفقت الأردن على الأوقاف في الضفة الغربية 485 مليون دولار، ومن عام 1967 وحتى عام 1989 أنفقت في المجمل العام حوالي ربع مليار دولار على الأوقاف هناك. وإضافة إلى ذلك، تبرع الملك حسين في صيف عام 1992 بمبلغ 2.8 مليون دولار لترميم القبة الذهبية لقبة الصخرة، كما حفز تبرع حسين الأسرة الأسرة السعودية الحاكمة للتبرع أيضا للمقدسات الإسلامية في "الحرم القدسي" بمبلغ مماثل.
وعلى عكس مساهمة الأردن التي قدمت من خلال أجهزة المملكة الهاشمية، قدمت المساهمة السعودية من خلال اليونسكو وبتنسيق مع منظمة التحرير الفلسطينية، لكن إسرائيل صدقت على خطوات الأردن كونها تتطابق مع سياستها التي تهدف إلى إضفاء الوضع الديني للأردن في شرق القدس مع تعزيز قبضة الملك حسين السياسية في باقي الضفة الغربية، بينما كانت تعمل إسرئيل على إعاقة أية خطوات تتخذها منظمة التحرير الفسطينية في القدس لقمع أي استقلال فلسطيني محلي، وذلك في وقت كانت منظمة التحرير قد بدأت تنافس فيه الأردن لتكريس وضعيتها وشرعيتها كممثل وحيد للفلسطينيين في الضفة والقدس.
الأردن والقدس.. بعد اتفاقية وادي عربة
اتفاق وادي عربة حفظ للأردن ولاية دينية بالقدس
بناءً على رغبة عربية وفلسطينية، أعلنت الأردن في 31 يوليو 1988 فك ارتباطها بالضفة الغربية، دون أن تتخلى في الوقت ذاته عن رغبتها في أداء دور رئيسي فيما يتعلق بالقدس، لاسيما في البلدة القديمة. وفي هذا الإطار نقل عن الملك حسين في لقاء له مع ممثلي مدينة القدس في مايو عام 1992 قوله: "إننا لا نستطيع أن نتصور حياة نجد أنفسنا فيها بشكل أو بآخر في وضع لا نؤدي فيه الواجب".
وبالنظر إلى تمسك الأردن بدورها في القدس، منحت معاهدة السلام الإسرائيلية - الأردنية التي وقعت في 26 أكتوبر 1994 الأردن دورا أساسيا فيما يتعلق بالأماكن المقدسة، حيث نصت المادة التاسعة من المعاهدة على أن "إسرائيل تحترم الدور الحالي الخاص للمملكة الأردنية الهاشمية في الأماكن الإسلامية المقدسة في القدس، وعند انعقاد مفاوضات الوضع النهائي ستعطي إسرائيل أولوية كبرى للدور الأردني التاريخي في هذه الأماكن".
وقد أثار هذا النص حفيظة الطرف الفلسطيني، إذ اعتبر البند انتهاكا صريحا من قبل إسرائيل بوصفها دولة محتلة للقدس، وليس من حقها إعطاء أي تعهد أو التزام بشأن أراضٍ متنازعٍ عليها ومؤجلة لمرحلة التفاوض النهائي، كما أن ذلك يضعف من الموقف التفاوضي الفلسطيني خلال المفاوضات المتوقعة حول الوضع النهائي للضفة الغربية.
وقد أوضح الأردن موقفه من هذه القضية في بيان رسمي صدر في 28 يوليو 1994، حيث لم تر الحكومة الأردنية "أي تناقض بين استرجاع السيادة على القدس العربية من خلال المفاوضات الإسرائيلية، وبين استمرار الأردن بالقيام بدوره في ممارسته لولايته الدينية على المقدسات الإسلامية في القدس".
وقبل ذلك كان ممثل الأردن في الأمم المتحدة "عدنان أبو عودة"، قد تقدم في عام 1992 بمشروع لتقسيم القدس إلى ثلاثة أقسام، يكون الشرقي منها تحت العلم الفلسطيني، والقسم الغربي تحت العلم الإسرائيلي، بينما تكون البلدة القديمة منطقة دينية دولية.
ورغم أن هذا المشروع قدم بصفة شخصية، إلا أنه يتوافق مع الرؤية الأردنية للمستقبل السياسي للقدس؛ فقد أكد الملك الأردني حسين عدة مرات أن السيادة في الأماكن المقدسة في المدينة يجب أن تكون لله، وذكر في خطابه أمام مؤتمر القمة الإسلامية السابع في الدار البيضاء في ديسمبر 1994 قوله: "نحن لا نقر بسيادة على الأماكن المقدسة لسائر عباد الله لغير الله سبحانه وتعالى".
واتسمت خطابات الملك حسين في السنوات الأخيرة قبل رحيله بإشارات إلى دولة فلسطينية "عاصمتها في القدس"، وليس "عاصمتها القدس"؛ ففي مؤتمر صحفي مشترك عقده مع الرئيسين المصري والفلسطيني في 6 يوليو 1998، أكد أن "إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على التراب الفلسطيني، وعاصمتها في القدس من مطالبنا الرئيسية الأساسية"، وهو ما أثار لغطا والتباسا حول مدى التزام الأردن بالسيادة العربية الكاملة على القدس الشرقية المحتلة منذ العام 1967.
ورغم أن بعض الباحثين يشيرون إلى عدم وجود تغير جوهري في الموقف الأردني تجاه القدس في عهد العاهل الأردني الحالي الملك عبد الله الثاني، إلا أن الإشارات التي أبداها منذ تسمله الحكم في فبراير 1999، تدل على عدم رغبته في دور خاص للمملكة في إدارة الأماكن المقدسة. والشاهد على ذلك إعلان رئيس وزراء الأردن في أغسطس 1999 أن "الأردن مستعد للتخلي عن الإشراف على الأماكن المقدسة في القدس إذا رغب الفلسطينيون في ذلك".
وكان لهذا الإعلان أثره البالغ في تحسن العلاقات بين الأردن والسلطة الفلسطينية، لكن دون أن ينعكس ذلك أو يغير شيئا من وضع القدس، إذ في ظل عدم توصل منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية مع إسرائيل إلى اتفاق نهائي بشأن القدس، لا يزال الاردن حتى هذه اللحظة يحظى بوضع خاص في كل ما يتعلق بالولاية الدينية على المقدسات الإسلامية في المدينة.
--------------------------------------------------------------------------------
باحث متخصص في الشئون الفلسطينية.